تآكل الردع الإسرائيلي- هزيمة متصاعدة أم وهم نصر؟

المؤلف: أحمد الحيلة10.04.2025
تآكل الردع الإسرائيلي- هزيمة متصاعدة أم وهم نصر؟

في غمرة عنفوانها واستعلائها، وبعد إلحاقها هزيمة نكراء بأربع دول عربية كبرى، مدعومة بإسناد من أربع دول عربية أخرى، تمكنت إسرائيل المحتلة من بسط سيطرتها الكاملة على فلسطين بأكملها، وشبه جزيرة سيناء المصرية، ومرتفعات الجولان السورية، وذلك في غضون ستة أيام فحسب، أو ما يُمكن اعتباره ست ساعات في سياق عام 1967.

لقد شكل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ممثلاً في عملية "طوفان الأقصى"، صدمة عنيفة للضمير الغافي والمستكين أمام قوة إسرائيل وسطوتها المهيبة، تلك الهيبة التي ترسخت على أنهار من دماء الفلسطينيين واللبنانيين والشعوب العربية على مدى 75 عامًا. لقد أثار هذا الحدث تساؤلات جوهرية حول قدرة إسرائيل ومستقبلها، في الوقت الذي كانت تستعد فيه لقيادة وريادة المنطقة العربية.

بكل ما أوتيت من قوة مدعومة من واشنطن والمنظومة الغربية، سعت إسرائيل المحتلة إلى الانتقام من الفلسطينيين واستعادة هيبتها المهدورة، ولكن على الرغم من مرور عام كامل، فقد باءت جهودها بالفشل الذريع في إلحاق الهزيمة بالشعب الفلسطيني، وحركة حماس، والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، الذي تحول إلى جرح نازف في الضمير والردع الإسرائيلي.

هذا الواقع المؤلم دفع إسرائيل إلى التوجه نحو لبنان، بحثًا عن نصر موهوم، فوضعت خططًا لإلحاق الهزيمة بحزب الله بضربة قاضية عبر عمليات أمنية معقدة، تهدف إلى تصفية قيادة الحزب العسكرية والسياسية، وإحداث انهيار مباشر في صفوفه، مما يؤدي إلى حسم المعركة عسكريًا ونزع سلاحه، ومن ثم التأثير على المشهد السياسي الداخلي في لبنان، وإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط لاحقًا، وهو ما أعلنه وتمنى تحقيقه بنيامين نتنياهو عقب اغتيال الأمين العام السيد حسن نصر الله في بيروت.

لكن سرعان ما تبددت نشوة إسرائيل، بعد الضربة الصاروخية الموجعة التي وجهتها إيران إليها في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، ردًا على اغتيالها لكل من إسماعيل هنية، وحسن نصر الله. فعادت إسرائيل إلى واقعها المعقد، بعد أن انقشع سُكر النصر المتوهم ضد حزب الله، الذي ما لبث أن استعاد زمام المبادرة وبدأ يهاجم إسرائيل بقوة صاروخية تصل إلى عمق 40 كيلومترًا شمال فلسطين، مُلحقًا خسائر فادحة في صفوف جنود الاحتلال وضباطه في جنوب لبنان، الذي تحول إلى مستنقع لجيش الاحتلال، الذي لم يتمكن حتى اللحظة من احتلال أي منطقة أو قرية، وما زال يقاتل على الحافة الأمامية من الحدود اللبنانية الفلسطينية.

لعبة توازن الردع

في السادس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول، وجهت إسرائيل ضربة باهتة إلى إيران، لا ترقى إلى مستوى التهديدات التي أطلقتها، خاصة على لسان وزير حربها يوآف غالانت، الذي توعد إيران بضربة مفاجئة قاتلة غير متوقعة.

في نهاية المطاف، وبعد تحضيرات استمرت قرابة الشهر، رضخت تل أبيب للسقف الأميركي الداعي إلى عدم استهداف البرنامج النووي الإيراني ومنشآته النفطية والاقتصادية، واقتصر ردها على أهداف عسكرية، وذلك لتجنب استفزاز إيران واحتمال الدخول في حرب إقليمية أو سلسلة من الردود المتبادلة، وحتى لا يتأثر مسار الانتخابات الأميركية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، وتجد واشنطن نفسها غارقة في الشرق الأوسط بعيدًا عن مواجهة روسيا والصين الصاعدتين عالميًا بقوة.

إن استجابة إسرائيل للإرادة الأميركية جاءت لعدة أسباب إضافية أخرى، من أهمها:

  • أولًا: جدية إيران في الرد على أية ضربة قوية قد تستهدف برنامجها النووي أو منشآتها الاقتصادية والنفطية والبنى التحتية. هذه الجدية استندت إلى قوة الضربة الأخيرة التي قامت بها إيران ضد أهداف حساسة في إسرائيل، ومنها المطارات العسكرية.
  • ثانيًا: تعافي حزب الله من موجة الاغتيالات التي طالت قادته السياسيين والعسكريين، وامتلاكه لزمام المبادرة، وتصديه للاجتياح البري الإسرائيلي بنجاح، وتكبيده جيش الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، هذا بالإضافة إلى قيام الحزب بضرب عمق الكيان بموجات صاروخية طالت مواقع عسكرية حتى جنوب حيفا بعمق 40 كيلومترًا بشكل يومي، مع استهداف محيط مدينة تل أبيب بين الحين والآخر، مما شكل تهديدًا رادعًا لإسرائيل في حال أقدمت على ضربة كبيرة لإيران، خاصة أن التقديرات تشير إلى أن الحزب ما زال يملك أوراق قوة على مستوى الإمكانات الصاروخية، والقدرات القتالية غير المستخدمة بعد.

هذا يفسر دوافع لجوء إسرائيل لضربة محدودة على إيران، ودون المستوى المرتقب، في محاولة منها لترميم الردع دون الانزلاق إلى حرب إقليمية، في وقت خسر فيه نتنياهو فرصة ضرب البرنامج النووي الإيراني الذي طمح إليه بشراكة أميركية.

في هذا السياق، يمكن القول إن إيران تفوقت على إسرائيل في معادلة الردع حتى اللحظة.

قراءة واستخلاصات

على ضوء ما جرى، يمكن استخلاص ما يلي:

  • أولًا: إن إغلاق باب الحرب أو التصعيد مع إيران، ولو مؤقتًا، سيدفع نتنياهو واليمين المتطرف إلى تركيز العمليات العسكرية ضد حزب الله في لبنان، وحركة حماس والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، في محاولة لإنجاز ما يمكن إنجازه قبل وأثناء وبعد الانتخابات الأميركية، وفرضه على الرئيس الأميركي القادم إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2025، كسياسة أمر واقع. ولذلك، فمن المرجح أن تشهد الأشهر الثلاثة القادمة تصعيدًا عسكريًا ضد حزب الله وحركة حماس وعموم المقاومة في المنطقة، خاصة إذا كان الفائز في الانتخابات الأميركية دونالد ترامب.
  • ثانيًا: أكدت الإدارة الأميركية مجددًا أنها شريك متورط في الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وفي مجازر الاحتلال في لبنان أيضًا. فكل المبررات التي ساقتها واشنطن حول استقلال القرار الإسرائيلي واهية، ومجرد محاولة لعزل نفسها عن الجريمة. فالإدارة الأميركية إن أرادت ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل تستطيع، والاحتلال سيستجيب؛ فواشنطن هي شريان الحياة الذي يمد الاحتلال بالأموال والسلاح والحماية السياسية. ومنع أميركا نتنياهو وإسرائيل من استهداف المنشآت الاقتصادية والنفطية والبرنامج النووي الإيراني دليل على ذلك؛ فنتنياهو كان وما زال يعتبر البرنامج النووي هدفًا له، وهو المحرض الأكبر على انسحاب الرئيس دونالد ترامب من اتفاق (1+5) لعام 2015 الخاص بالاتفاق النووي الإيراني، ورفع العقوبات عن إيران.
  • ثالثًا: نجحت إيران في اللعب في المناطق الرمادية وعلى حافة الهاوية، حيث امتلكت الجرأة على مهاجمة إسرائيل في اللحظة الحاسمة عبر ضربتها الصاروخية الأخيرة على إسرائيل (الوعد الصادق 2) في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، علاوة على مساعدتها حزب الله على التعافي من ضربة اغتيال القادة، وعودته إلى ميدان المعركة قويًا من جديد أمام إسرائيل.
  • رابعًا: إسرائيل أضعف من أن تقاتل على عدة جبهات حيوية، رغم الدعم الأميركي اللامحدود، وكل استعراضاتها الإعلامية مجرد حرب نفسية ضد خصومها، واستعراض للقوة أمام بعض الأنظمة العربية الصديقة لها، في محاولة منها لتبقى قوة مهابة الجانب في عيون الآخرين.

واقع الحال يشير إلى أن إسرائيل لم تتعاف من صدمة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 (طوفان الأقصى) وتداعياتها على الجبهات المتعددة، وما زالت تعاني من تآكل في قوة ردعها أمام الشعب الفلسطيني الصامد ومقاومته بقيادة كتائب القسام، وأمام حزب الله اللبناني، والمقاومة في اليمن والعراق، ناهيك عن إيران. وهذا التراجع في القدرة الردعية مرشح للازدياد والتعمق، كلما طال أمد المعركة، وفشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها أمام محور المقاومة.

إن استمرار هذا الإخفاق، سيؤدي إلى تراجع مكانة إسرائيل وهيبتها الأسطورية المزعومة، وسيقلل من قيمتها وقدرها في نظر حلفائها، كما سيزيد من حدة الخلافات بين اليمين الصهيوني المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو، والمعارضة الليبرالية التي تخشى تحول إسرائيل إلى دولة دينية متطرفة بفعل هذه الحرب المستمرة.

هذا التدهور سيكون بمثابة نذير شؤم، حيث ستصبح إسرائيل مكانًا طاردًا لأبنائها، وخاصة الليبراليين الأثرياء والمبدعين، الذين لن يطيقوا العيش في بيئة مضطربة أمنيًا وغير مستقرة اقتصاديًا بسبب تهور اليمين الصهيوني المتطرف؛ فالردع هو الحصن الواقي لإسرائيل في نهاية المطاف، وانهياره يعني انكشافها في منطقة تعج بالصراعات والتحديات.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة